لمسات تجبر الخواطر
 |
لمسات تجبر الخواطر |
في خضم الحياة، وسط صخبها وتقلباتها، هناك لحظات صامتة، خفيفة، لكنها قادرة على إحداث ضجيج داخل القلب. لحظات لا تُشترى، ولا تُطلب، لكنها عندما تأتي، تُغيرنا إلى الأبد.
من تلك اللحظات، تبدأ القصص التي لا تُنسى.في أحد أيام الشتاء الباردة، جلستُ في مقهى صغير على طرف المدينة. الجو قاتم، السماء ملبدة، والمطر يضرب النوافذ بعنف. في داخلي، كان الطقس أشد قسوة.
فقدت عملي مؤخرًا بعد سنوات من الاستقرار، وانتهت علاقتي العاطفية الطويلة، وتلقيت للتو خبر مرض والدتي، واحتياجها لعملية عاجلة مكلفة. كنت أشعر أن الحياة بأكملها قررت أن تنقلب عليّ دفعة واحدة.
أمام تلك العاصفة الداخلية، كان الصمت ملاذي الوحيد. أحتسي قهوتي بهدوء، أراقب قطرات المطر، وأفكر في جدوى الاستمرار.وفي خضم هذا التفكير، دخلت امرأة مسنّة إلى المقهى. كانت ترتدي معطفًا رثًّا، وتحمل حقيبة قديمة. مشيتها بطيئة، ونظراتها حذرة، لكن في عينيها بريق متعب.
جلست على الطاولة المجاورة، وطلبت كوب شاي.أخرجت من حقيبتها قطعة خبز صغيرة، وبدأت تأكلها ببطء شديد، كأنها تستنشق فيها الحياة. يداها كانت ترتجف من البرد، وملامح وجهها تشي بحكايات تعب لا تنتهي. لا أعلم ما الذي دفعني للنهوض، لكن دون تفكير، توجهت إلى النادل وطلبت وجبة كاملة لها، وطلبت ألا يُخبرها بمن أرسلها.
عدت لمكاني، أراقب من بعيد. رأيت ذهولها حين وضع أمامها الطعام، ثم نظرتها الحائرة، ثم ابتسامتها الخفيفة التي بددت شيئًا من التعب في ملامحها. رفعت يديها للسماء، وشعرت أنها لا تشكر الطعام فقط، بل تشكر الحياة التي تذكّرتها فجأة.وقبل أن تخرج، اقتربت مني.
لم تقل الكثير، فقط وضعت يدها على كتفي، وقالت:“لقد جبرت خاطري اليوم يا ولدي أنا لم آكل منذ يومين. كنت أفكر أن أستسلم، لكنك ذكّرتني أن الخير ما زال في الناس.
الله يجبر خاطرك مثل ما جبرتني.”ثم أخرجت من جيبها ورقة صغيرة وقالت: “هذا رقم ابني، عنده شركة صغيرة ويبحث عن موظف. قل له إن أمه أرسلتك.”أخذت الورقة، مصدومًا من تتابع الأحداث.
وعندما خرجت وسط المطر، شعرت أني فقدت شيئًا ثمينًا، وأيضًا وجدت شيئًا أغلى. في لحظة، تغير داخلي. أحسست بأن روحي خفّت، كأن ثقلاً كان على صدري وذاب.في اليوم التالي اتصلت. وتوظفت. وبعد أسابيع، كنت قد وفّرت تكاليف علاج أمي. وبعد عام، أصبحت مديرًا في الشركة.لكن النجاح المهني لم يكن أجمل ما حدث بل الدرس.فقد تعلمت أن جبر الخواطر ليس فعلًا عابرًا، بل رسالة.
أن أبسط لفتة ممكن أن تنقذ روحًا، تعيد الأمل، وتفتح أبوابًا لم نكن نحلم بها.منذ ذلك اليوم، قررت أن أمارس جبر الخواطر كلما استطعت. لا بالمال وحده، بل بالكلمة الطيبة، بالاهتمام، بالإصغاء، بالتواجد الصادق.اكتشفت أن من يُجبر خاطرًا، يُجبر الله خاطره بطريقة أو بأخرى. وأن من يزرع الفرح في قلب غيره، يعود إليه الفرح مضاعفًا.في عالم يزداد جفافًا، نحتاج إلى أفعال صغيرة تعيد إلينا إنسانيتنا.
نحتاج إلى نظرة حنونة، كلمة مشجعة، لمسة دافئة. نحتاج أن نكون لبعضنا بلسمًا لا جرحًا.كم من الأرواح حولنا مكسورة، تتظاهر بالقوة، وتخفي بكاءها خلف ابتسامة؟ كم من شخص يمر بجانبك يتمنى أن يسمع جملة واحدة تغير يومه، أو حياته؟فلنكن سببًا في تلك اللحظة التي لا تُنسى.
لحظة تعيد الثقة، وتكسر العزلة، وتفتح نافذة للنور.فجبر الخواطر ليس فقط عطاءً للآخرين، بل هو أيضًا شفاء لنا. كل كلمة طيبة نمنحها، تعود إلينا بلطف مضاعف. وكل يد نمدها، تُمد لنا حين نحتاج.لنكن جميعًا جابرين للخواطر، زارعين للأمل، صانعين لفرق حقيقي في حياة من حولنا. فالحياة أثمن من أن تُعاش بجفاء، وأجمل من أن تُهدر دون أثر طيب.
#SouadWriter
تعليقات
إرسال تعليق