اخترنا راحتنا النفسية
اخترنا راحتنا النفسية، مو لأنها كانت الطريق الأسهل، بل لأنها أصعب قرار ممكن يتخذه الإنسان في حياته. في عالم مليان ضجيج، وأصوات متداخلة، وعلاقات تستنزف أكثر مما تعطي، كان لازم نوقف ونقول: كفى. ما عدنا نقدر نتحمل فكرة إننا نعيش لإرضاء الكل على حساب أنفسنا. أدركنا متأخر إن الطيبة المفرطة تذوبنا، وإن الحنية الزايدة تتحول لثقل يطيح بنا بدل ما يرفعنا. عرفنا إن الحنية إذا ما وجهناها لأنفسنا أولًا ما راح تبقى منها شي نعطيه لغيرنا.
في كل يوم مررنا فيه بموقف أوجعنا، وفي كل مرة انسحب أحد من حياتنا بصمت، تعلمنا درس جديد. الخذلان الصامت وجع، يمكن أشد من الكلمة الجارحة. لما يختفي شخص بدون سبب ويتركك تبحث عن إجابات في فراغ، يستهلك أعصابك ويخليك تنام بعقل مزدحم. ومع الوقت فهمنا إن المشكلة ما هي فينا، ولا هي فيهم بالضرورة، بل في عدم قدرتهم يواجهون. يختارون الصمت، ونحن ندفع الثمن. لكن الحقيقة؟ اللي ما يقدر يواجهك ما يستحق وجوده في حياتك.
اخترنا راحتنا النفسية لأننا تعبنا من التوقعات الثقيلة. من الناس اللي يظنون وجودك التزام أبدي، وكأنك ما تملك الحق تقول "لا". كلمة "لا" صارت إنقاذ، صارت جدار نحمي فيه قلوبنا. نقولها لكل من يحاول يتجاوز حدودنا، لكل ظرف يحاول يسحبنا بعيد عن حقيقتنا، لكل فكرة تحاول تقنعنا إننا أقل مما نستحق. "لا" ما عادت قسوة، صارت أصدق شكل من أشكال الصدق مع الذات.
تعلمنا إن القوة ما هي بالصوت العالي، ولا بالقدرة على الدخول في كل معركة. القوة الحقيقية في الصمت أحيانًا، في الابتسامة اللي ترد على السخرية، في الترفع عن الجدال العقيم، في الانسحاب من أرض معركة ما تستحق وجودنا. القوة في إنك تختار متى تتكلم ومتى تسكت، متى تعطي ومتى تحتفظ بنفسك.
كل تجربة ألم مررنا فيها، علمتنا كيف نصير أهدأ وأقوى. وجع الخيانة، غياب بعض الناس، المواقف اللي كسرنا فيها ولم نُكسر… كلها صارت وقود يقوي وعينا. صرنا نعرف إن التضحية الدائمة ما تعني حب، بل استنزاف. وإن اللي يحبك صدق ما يحتاج تبرير عشان يبقى. وإن الاستمرار في علاقات سامة جريمة بحق أنفسنا. لذلك كان لازم نقرر، ونختار أنفسنا.
الراحة النفسية ما تعني الهروب من الواقع، ولا الانعزال عن الحياة. بالعكس، هي أفضل طريقة لمواجهة الحياة. لما نحدد حدودنا بوضوح، ونقلل الضوضاء اللي حولنا، ونختار الناس اللي يشبهوننا، ونمنح أنفسنا وقت للعزلة الصحية، نرجع للحياة بقوة أكبر. الراحة النفسية مو لحظة عابرة، بل أسلوب حياة يحتاج وعي يومي.
صرنا نعرف إننا لسنا أنانيين لما نختار أنفسنا. اللي يسميك أناني لأنه شفت قيمتك، هو نفس الشخص اللي كان يستفيد من تجاهلك لنفسك. واختيارنا لراحتنا النفسية هو أعظم أشكال العطاء… لأننا لما نصير أقوى داخليًا، نصير أقدر نعطي بحب أصدق وحنية أنقى.
مو معنى إننا اخترنا راحتنا إننا فقدنا الحنية، بالعكس. الحنية لازالت فينا، لكن صارت واعية. صارت بحدود تحمينا، ما صارت مفتوحة لكل أحد. صارت هدية نختار لمن نعطيها، مو التزام يفرض علينا. اخترنا راحتنا النفسية لأننا أدركنا إن أول قلب يحتاج الحنية هو قلبنا.
في عالم يمجّد الصخب ويعتبر الضجيج دليل حياة، اخترنا الهدوء كثورة. وفي زمن يركض بلا توقف، اخترنا التوقف لحظة والاستماع لصوت داخلنا. وفي مجتمع يضغطك لتكون نسخة من توقعاتهم، اخترنا نكون نسختنا الحقيقية. هذه الثورة مو سهلة، لكنها القرار اللي يحمي بقايا قلوبنا ويصنع مستقبل أكثر وضوحًا لنا.
اخترنا راحتنا النفسية، مو لأننا هربنا، بل لأننا أخيرًا عرفنا معنى القوة. القوة مو في كسب الجميع، بل في كسب نفسك. القوة مو في أن تبقى بأي ثمن، بل في أن تغادر حين يصبح وجودك نزيف. القوة مو في أن تسكت قلبك لإرضاء الآخرين، بل في أن تسمع صوته بصدق وتمنحه حقه في الحياة.
ومن اليوم، ما عدنا نبرر، ما عدنا نشرح، وما عدنا نركض وراء اللي يرحل. صارت خطواتنا أوضح، وصارت أصواتنا أهدأ لكنها أصدق. ومن اختار نفسه ما عاد يخاف من الوحدة، لأن الوحدة أرحم من صحبة تستنزفك. ومن اختار نفسه صار يعرف إن السعادة قرار داخلي، ما يعطى ولا يُمنح، بل يُنتزع بشجاعة.
اخترنا راحتنا النفسية… لأنها حق، لأنها قوة، لأنها الطريق الوحيد لحياة تشبهنا. ما عدنا نريد أكثر من قلب مطمئن، وعقل هادئ، وروح ما تتنازل عن نفسها لأي أحد.
تعليقات
إرسال تعليق